مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

الموروث الروائي بين الحقيقة ووهم النقد العلمي - (الحلقة الرابعة)

بسم الله الرحمن الرحيم 
الموروث الروائي بين الحقيقة ووهم النقد العلمي - الحلقة الرابعة 

هل تأثّرَ مصنفو الكتب الأربعة بصحيحي البُخاري ومسلم ؟! 

قال السيّد كمال الحيدري (1): (والمظنونُ أنَّ النظم البديع الملحوظ في الكتب الحديثية الأربعة في مدرسة أهل البيت قد كان انعكاساً لتجربة البخاري ومُسلم، ولا سيَّما وأنَّ الفاصلة الزمنيَّة بين الشيخ الكليني [ت:329 هـ] ومسلم النيسابوري [ت: 261 هـ] لم تبلغ الثمانين عاماً، وقد كان المحدثون آنذاك لا يجدون حرجاً في التزوّد من بعضهم رغم الاختلاف المذهبي). 
ومثل هذا القول لا يمكن أن يصدر من متخصص في التراث الإسلامي يعرف خصائص الكتب التراثية، بل لا يمكن أن يخطر بباله ولو كخاطرٍ عابر أو كظنٍ يُتَوَقَّفُ عنده؛ لأن هذا خلاف البديهيات الواضحة لدى المشتغلين بتحقيق التراث. 
ولنعرف مدى فساد هذا القول لا بد أن نذكر حقيقة تتعلقُ بالصحيحين، وهي أنّ ترتيبهما الحالي ليس من صنع المؤلِّفَيْن بشكلٍ كامل، فقد رُتّبا فيما بعد بأيدي من تلاهما، وهذا القول معروف عند طلبة العلم المشتغلين بفنّ الحديث والتراث الإسلامي فضلاً عن المحققين وراسخي القَدَم في هذا المجال، وإذا صحّ هذا فكيف يتأثر أصحاب الكتب الأربعة بفنّ التبويب لديهم؟ 

حول ترتيب صحيح البخاري 

من المعلوم أنّ البخاري توفي وقد ترك صحيح البخاري مسودّة بحاجة إلى تبييض وتحرير وكانت بعض أحاديثه متفرقة بحاجةٍ إلى جمع تحت بابٍ وأبواب بحاجةٍ إلى إثبات أحاديث فيها وإلى ما هو من هذا القبيل. 
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (2): ([قوله باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح] كذا أخَّرَ ذكره عن إخوانه من العشرة، ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على ترجمة لمناقب عبد الرحمن بن عوف ولا لسعيد بن زيد وهما من العشرة، وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد بن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية، وأظن ذلك من تصرف الناقلين لكتاب البخاري كما تقدم مراراً أنه ترك الكتاب مسودة فإن أسماء من ذكرهم هنا لم يقع فيهم مراعاة الأفضلية ولا السابقية ولا الأسنية وهذه جهات التقديم في الترتيب فلما لم يراع واحداً منها دل على أنه كتب كل ترجمة على حدة فضم بعض النقلة بعضها إلى بعض حسبما اتفق).
وهذا يعني أن الكتاب لم يكن مرتباً على نحوٍ معين، بل كانت التراجم (الأبواب) متفرّقة وقد جمعها الناقلون ورتبوها، ويُستظهر هذا من عدم ترتيب كتب المناقب طبق أي أساسٍ تصنيفي كالأسبقية أو الأسنية أو الأفضلية، ويُضاف إلى هذا أنّ ابن حجر يقول (3): (قال الشيخ محيي الدين نفع الله به: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها، ولهذا المعنى أخلى كثيراً من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر فيه على قوله فيه فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلَّقاً، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها، وأشار إلى الحديث لكونه معلوماً وقد يكون مما تقدم وربما تقدم قريباً، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة وفي بعضها ما فيه حديث واحد وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة، وقد ادَّعى بعضهم أنه صنعَ ذلك عمداً وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه، ومن ثمة وقع من بعض مَنْ نَسَخَ الكتاب ضَمُّ بابٍ لم يُذْكَرْ فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب، فأشكلَ فهمُهُ على الناظر فيه وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري، فقال: أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي، قال: حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع إنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضعٍ ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث). 
ومن هذا النص نفهم أنَّ صحيح البخاري في بداياته كان غير مضبوط النُسَخِ من جهة ترتيب الأحاديث والأبواب، وبقي الاختلاف مستمراً حتَّى ما بعد وفاته لأكثر من مائة وثلاثين سنة، فالبخاري توفيَ سنة 256هـ بينما الكشميهني توفي سنة 389هـ(4) والكشميهني ترتيبه لصحيح البخاري مختلف عن المستملي والسرخسي والمروزي، وهو آخرهم وفاةً، ما يعني أن الترتيب بقي متغيراً من حين لآخرَ حتى بعد وفاة المستملي والذي مات قبل الكشميهني بثلاث عشرة سنة، مع أنّ الجميع انتسخوا عن أصلٍ واحد وهي نسخة الفربري راوي الصّحِيحِ، وهذا يعني أنَّ الشيخ الكليني والصدوق لم يُدركا ترتيب صحيح البخاريّ بالشكل المعهود في الأزمان المتأخرة، أما الشيخ الطوسي فقد جرى في «التهذيب» على متابعة الشيخ المفيد في «المقنعة». 

حول ترتيب صحيح مُسلم 

ونفس الأمر يُقال في صحيح مسلم، إذ إنَّ مُسلماً ترك كتابه بلا عناوين لأبواب مصنَّفهِ، وقد صرح بذلك بعض العلماء، ولهذا بقي الكتاب عبارة عن أحاديث تمّ سردها بلا عنونة أو تصنيف. 
قال ابن قيم الجوزيّة في (اجتماع الجيوش الإسلاميّة) (5): (قول مسلم بن الحجاج: يُعْرَف قوله في السنة من سياق الأحاديث التي ذكرها ولم يتأولها، ولم يذكر لها التراجم كما فعل البخاري ولكن سردها بلا أبواب ولكن تعرف التراجم من ذكره للشيء مع نظيره). 
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري الشافعي (6): (واعلم أن المؤلف رحمه الله تعالى لم يذكر التراجم من الكتب والأبواب في جامعه وفاءً بما التزمه للسائل من جمع الأحاديث المرفوعة وتلخيصها في كتاب مؤلف من غير مزج غيرها فيها، أو فراراً من إطالة المؤلف بمزج التراجم فيه لتقاصر الهمم عن أخذ المطولات، وإنما وضعها بعضُ رواته، وزاد فيها بعض الشراح له، ومع ذلك كثير من الأحاديث لا يُطابق التراجم السابقة ولا اللاحقة فلا بد من وضع التراجم لها بحسب ما يستنبط منها من الأحكام، ولو كان وضع التراجم من المؤلف لم تختلف باختلاف النسخ واختلاف الشراح). 
وقال الشيخ صفي الدين المباركفوري (7): (حيث إن صحيح الإمام مسلم كان خالياً عن الكتب والأبواب عموماً فقد وضع الإمام النووي وغيره الكتب والأبواب بعناوينها وتراجمها، واشتهر من بينها ما وضعه الإمام النووي اشتهاراً كأنه من أصل الكتاب ومن عمل المصنف إلا أنه لا يخلو من نظر، فكثير منها لا يطابق الحديث تمام المطابقة، بل يطابق لما أفتى به فقهاء الشافعيّة). 
وقال السيوطي (8): (فليس فيه بعد المقدمة إلا الحديث السرد وما يوجد في نسخة من الأبواب مترجمة فليس من صنع المؤلف وإنما صنعه جماعةٌ بعده كما قاله النووي ومنها الجيّد وغيره. 
قلتُ: كأنهم أرادوا به التقريب على من يكشف منه، وكان الصواب ترك ذلك، ولهذا تجد النسخ القديمة ليس فيها أبوابٌ البتّة، نسخة بخط الحافظ أبي إسحاق الصريفيني كذلك لا أبواب فيها أصلاً). 
وقال النووي (9): (وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيّد وبعضها ليس بجيّد، وإنما لقصور في عبارة الترجمة، وإما لركاكة لفظها، وإما لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرص على التعبير عنها بعباراتٍ تليق بها في مواطنها). 
وقال الشيخ مشهور حسن سليمان في كتابه (الإمام مسلم بن الحجاج ...) (10): (ليس في صحيح مسلم بعد المقدّمة إلا الحديث السرد، وما يوجد في نسخه من الأبواب مترجمة فليس من صنع المؤلف، وإنَّما صنعه جماعةٌ بعده من نُساخه أو شراحه، وأهمهم الإمام النووي، وكانوا يضعونها على حاشيته)، وذكر فيما بعد أقوال الديوبندي وابن الصلاح وابن عساكر والسيوطي والنووي فيما يفيد أنّ الكتابَ لا توجد فيه أبوابٌ معنونة.
نعم، صرّح بعضهم أنّ مسلماً سرد صحيحه ولم يضع عناوين للأبواب ولكنه جمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد في نفس المكان فكأنّه مبوّب في الحقيقة، وهذا يعني أنّ عناوين الأبواب لم تكن موضوعة، وإنما وُضعت الأحاديث على التتابع بحيث يجمعها مضمون واحد في مكان معيّن، ومع ذلك فإن هذا النحو من الترتيب لم يكن وافياً بالغرض بقدر الإمكان وإلا لما اضطر القرطبي في تلخيصه لصحيح مسلم أن يقدم ويؤخر بعض الأحاديث لأجل ضمّ الأحاديث ذات المضمون الواحد إلى ما يشاكلها، ولما اضطر من بعده كالنووي وغيره أن يضعوا بعض العناوين لأحاديث صحيح مسلم.
وبناءً على ما تقدّم يمكن الجزم بأنّ المحمّدين الثلاثة رّتبوا كتبهم الأربعة قبل أن تكون أحاديث صحيح مسلم مبوّبة ومفهرسة بالنحو المعهود الآن.

وبعد أن يتضح لك حال تبويب الصحيحين ينبغي أن نتساءل: من أين يستفاد من مثل هذين الكتابين في التبويب وأبوابهما غير واضحة وليست مهيَّأة للاستقراء، وهل مثل هذا المسلك في التصنيف يمكن أن يكون مؤثراً ويحتذى به؟! فلا الفهارس ظاهرة ولا الأبواب للقراء مفصّلة، فمن أين يمكن أن يترك هذا العمل الناقص أثراً في فهرسة كتب من أجود الكتب فهرسة وتبويباً ؟!

إبراهيم جواد 
قم المقدَّسة - (عُشُّ آلِ مُحَمَّد عليهم السلام). 
الأربعاء، 17 ذو القعدة 1436 هـ / 2 سبتمبر2015. 

----------------------
(1) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، ص 39. 
(2) فتح الباري، ج8، ص 454، الناشر: دار طيبة - الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1426هـ. 
(3) هدي الساري مقدمة فتح الباري، ج1، ص 11، الناشر: دار طيبة - الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1426هـ. 
(4) سير أعلام النبلاء، ج16، ص 492، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، سنة النشر: 1405هـ/ 1985م. 
(5) اجتماع الجيوش الإسلاميّة، ص 367، الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، سنة النشر:1431هـ . 
(6) الكوكب الوهاج والروض البهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج1، ص135، الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1430هـ. 
(7) منة المنعم في شرح صحيح مسلم، ج1، ص 9، الناشر: دار السلام للنشر والتوزيع- الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1420هـ/ 1999م. 
(8) الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، ج1، ص33، تحقيق: أبو إسحاق الحويني، الناشر: دار ابن عفان – الخبر/ المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1416 هـ/1996م. 
(9) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج1، ص 138، تحقيق: خليل مأمون شيحا، الناشر: دار المعرفة – بيروت، الطبعة: السابعة عشر، سنة النشر: 1430هـ/2009 م. 
(10) الإمام مسلم بن الحجاج صاحب المسند الصحيح ومحدث الإسلام الكبير، ص182، الناشر: دار القلم – دمشق، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 2009م.